Skip to main content

انقسام العلم إلى الضروري والنظري

source: https://www.facebook.com/Dar.alghazali


بسم الله الرحمن الرحيم
[1]قال المصنِّف رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه وعلوم شيخنا في الدارين آمين:
إدراك مـفــــرد تـــصــــــوّر عـــلـمْ
*
ودرك نـســـبـة بـتـــصـديـق وســـمْ
وقـــدّم الأوّل عـــنـــــد الـــوضـــعِ
*
لأنّـــه مــــقــــــدَّم بـــالـــطبــــــعِ
والنـــظري مـــا احتـــاج للتـــأمّــــلِ
*
وعـكــسـه هـو الـضــروري الـجــلـِي
ومـــا بـــه إلـــى تــصــــوّر وصــــلْ
*
يـدعــى بـقــول شـارح فـلــتـبــتـهـلْ
ومـــا لـتــصـــديــق بــه تــوصـــــلا
*
بـحــجّــة يـعــرف عـنــد الـعــقــــلا
***



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحابته الطيّبين الطاهرين.
أمَّا بعد: ذكرنا في المرَّة الماضية أنَّ العلم عند المناطقة يُعرَّف بالإدراك المطلق، وهو يشمل العلم المشهور الذي هو التصديق الجازم وهو العلم عند المتكلِّمين والأصوليِّين، ويشمل الجهل المركَّب لا البسيط، ويشمل التقليد، وكذلك يشمل الظنّ، والشكّ، والوهم.
ثُمَّ ذكرنا أنَّه ينقسم إلى تصوُّرٍ وتصديق؛ لأنَّ هذا الإدراك إن تعلَّق بوقوع نسبة كلاميَّةٍ أو حكميَّةٍ أو لا وقوعها فهو التصديق، وإلَّا بأن تعلَّق بالموضوع أو بالمحمول أيضا –بأمر مفرد؛ كما ذكره الشيخ رحمه الله- فيكون تصوُّرًا.
ثُمَّ تكلَّمنا على أنَّ التصديق عند الحكماء هو الحكم أى: إدراك وقوع النسبة أو لا وقوعها، وأنَّه عند الإمام الفخر الرَّازي رحمه الله مجموع الأربعة أى: تصوُّر الموضوع، وتصوُّر المحمول، وتصوُّر النسبة، وتصوُّر الذي هو إدراك وقوع النسبة أو لا وقوعها وهو الحكم، فمجموع الأربعة عند الإمام هو التصديق. وتكلَّمنا على كلِّ ذلك.
بقي لنا مِمَّا مضى قوله: ((أقول: لفظ *أنواع* يُخرِج العلم القديم))، هذا في الترجمة في قول المصنّف: ((*أنواع العلم الحادث)).
((أقول: لفظ *أنواع* مُخرِجٌ للعلم القديم)) وهو علم الله سبحانه وتعالى، ((فإنَّه لا تنوُّعَ فيه، فإتيانُه بـ *الحادث* بعد ذلك تأكيد وإيضاح للمبتدئ)).
لابدَّ أن نعلم أنَّ علم الله سبحانه وتعالى يَختلِف عن علم المخلوقات؛ وذلك لأنَّه صفة واحدة كسائر صفات الله تعالى، فلا تقبل التعدُّدَ ولا التنوُّعَ ولا التجزُّءَ، وليس لها بداية ولا نهاية، إلى آخر ما يُذكَر في علم الكلام.
صفة واحدة قائمة بذاته سبحانه وتعالى تنكشف بها جميعُ المعدومات والموجودات انكشافا تامًّا لا يسبقه خفاء، هذا هو تعريف صفة العلم عند المتكلِّمين من أهل السنَّة والجماعة.
ومعنى كونها (واحدة)، أى: لا تعدُّدَ فيها ولا انقسام، أنَّهَا لا يُمكِن أن تنقسم إلى تصوُّرٍ وتصديق؛ لأنَّهَا واحدة بخلاف علمنا.
وأيضا هذه الصفة القديمة (تنكشف بها المعدومات والموجودات انكشافا تامًّا)، أى: لا يحتمل النقيض سواءٌ في السابق أو في المستقبل، لم يسبقها جهل ولا يمكن أن يلحقها جهل.
وقد ذكرنا أنَّ هذا العلم وهو المنطق وُضِع لاكتساب المجهولات من المعلومات؛ كما بيَّنَّا أنَّ الفكر: هو ترتيب أمور معلومة للتأدِّي إلى أمر مجهول، وهذا الترتيب يحصل فيه الخطإ فوُضِع المنطق لعصمة المُرتِّب الذي يُرتِّب هذه الأمور ويريد أن يصل إلى المجهول عن الخطإ.
وما دام علمه تعالى لا يلحقه خفاء ولا يعتريه الجهل، فهل يحتاج إلى التوصُّل بالمعلومات إلى المجهولات؟ لا يمكن؛ لأنَّ علمَه سبحانه وتعالى قد انكشفت له جميع المعدومات والموجودات انكشافا تامًّا، فأين المجهول الذي يحتاج المولى سبحانه وتعالى إلى ترتيب أمور معلومة للتأدّي إلى هذا المجهول؟، أين هو؟ لا وجود له.
بخلاف حال البشر فإنَّهم يعلمون أشياءً ويجهلون أشياءً، ويتوصَّلون إلى الأشياء المجهولة بالأشياء المعلومة، فيحتاجون إلى علمٍ يعصمهم عن الخطإ في هذا التوصُّل إلى الأمر المجهول. فلذلك نقول: هذا العلم أى: المنطق موضوع لعلم الحوادث ولا يدخل فيه علمه تعالى.
إذن ذكرنا في صفة العلم أمرين مهمَّين: الأوَّل هو أنَّها صفة واحدة لا تقبل التعدّد ولا التجزُّء ولا انقسام، ليس لها بداية ولا نهاية. الأمر الثاني: أنَّ هذه الصفة لا يعتريها خفاء، لا في السابق ولا في المستقبل.
عندما قال المصنِّف رحمه الله: ((*أنواع العلم الحادث))، لماذا قيَّد بالحادث؟ قيَّد بالحادث؛ لإخراج القديم. لماذا يخرج منه؟ لأنَّ صفة الله تعالى لا يعتريها خفاء، فلا يُوجَد شيء مجهول بالنسبة له.
قال الشارح رحمه الله: ((أقول لفظ *أنواع* مخرِج للعلم القديم)). ما أخرج علم الله سبحانه وتعالى بلفظ الحادث، مع أنَّنا ذكرنا منذ القليل أنَّه ذكر الحادث؛ لإخراج علم الله تعالى، هذا هو المتبادر عندما نقرأ. إلَّا أنَّ الشارح ما قال ذلك، ما قال: علم الله تعالى يخرج بلفظ الحادث أو بقيد الحادث، وإنَّما قال: ((لفظ *أنواع* مُخرِجٌ للعلم القديم)).
لماذا قال ذلك؟ لأنَّنَا قد بيَّنَّا أنَّ صفته تعالى أى: صفة العلم في حقِّ الله سبحانه وتعالى لا تنقسم ولا تتعدَّد وليس لها أنواع؛ لأنَّها واحدة كما هو مذهب أهل السنّة والجماعة، فلذلك أخرج الشارح علمه تعالى بلفظ أنواع لا بلفظ الحادث.
لكن هل يصحُّ أيضا إخراجها أى: صفة القديم بلفظ الحادث؟ نعم، فلذلك قال: ((فإتيانه بـ*الحادث* بعد ذلك))، بعد لفظ أنواع ((تأكيد))؛ لأنَّ دلالة لفظ الحادث هي هي دلالة لفظ أنواع فتكون تأكيدا أى: تقوية.
قال: ((لفظ *أنواع* مُخرِجٌ للعلم القديم، فإنَّه لا تنوُّعَ فيه))، وهذا قد أوضحناه وبيَّنَّاه. ((فإتيانُهُ بـ*الحادث* بعد ذلك)) مع أنَّ الحادث يُخرِج علمَه تعالى؛ لأنَّ الحادث يقابل القديم.
قال: ((فإتيانه بـ*الحادث* بعد ذلك))، أى: بعد إتيانه بلفظ أنواع ((تأكيدٌ))، أى: تقوية لِمَا عُلِم من أنواع. ثم قال: ((وإيضاح للمبتدئ)) ولم يقل وزيادة إيضاح أو وزيادة بيان.
قال: ((وإيضاح للمبتدئ))، أى: يُحتمَل أن يكون لفظ الحادث لحقِّ المبتدئ مخرِجًا لا أنواع لماذا؟ لأنَّ المبتدئ قد لا يكون عالما بمعنى صفة الله سبحانه وتعالى، رُبَّما لا يكون دارسا لعلم الكلام فلا يَعلَم أنَّ أنواع يُخرِج علمَه تعالى. ما عَلِم أنَّ علمَه تعالى واحدة ولا تقبل التنوُّع ولا التجزُّء، فلذلك عندما يقرأ ((*أنواع العلم)) لم يخرج علمَه تعالى؛ لأنَّ قيد أنواع أو لفظ أنواع لا دلالة عند هذا المبتدئ على أنَّ علم الله تعالى ليس مقصودا؛ لأنَّه لا يعلم أنَّ علمه لا يتنوَّع، فلذلك يكون لفظ حادث في حقِّ المبتدئ احترازا عن علمه تعالى. فلذلك قال: ((وإيضاح للمبتدئ)).
إذن يكون تأكيد في حقِّ من كان عالمًا بأنَّ علمَه تعالى لا يتنوَّع، ويكون إيضاحا واحترازا في حقِّ المبتدئ الذي لا يعلم ذلك. هذا بالنسبة للكلام على لفظ أنواع ولفظ حادث.
§          لماذا لا يتعلَّق أو لا يذكر علم الله سبحانه وتعالى في بحث هذا العلم؟.
ذكرنا أنَّ هذا العلم؛ لإكتناس المجهولات من المعلومات، وأيضا إذا طبَّقنا الكلام السابق على علمه تعالى بعد توهُّمِ الدخول فمعناه أنَّ علمه تعالى إدراك، وعرَّفنا الإدراك بأنَّه حصول صورة الشيء في الذهن ومعنى ذلك أنَّ الصورة تنطبع وتحصل وهذا لا يكون إلَّا للحوادث؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى لا تقوم به الحوادث، لا تقوم به الصورة، ولا الأعراض الحادثة فلذلك لا يكون علمه تعالى في هذا العلم؛ لأنَّه لا يُمكن أن يكون علمه تعالى بحصول صورة في نفسه سبحانه وتعالى. هذه كلُّها وجوه؛ لإخراج علمه سبحانه وتعالى.
***
توقَّفنا عند قول الشارح رحمه الله تعالى: ((ثُمَّ بيَّن))، أى: المصنِّف ((أنَّ النظريَّ من كلٍّ من التصوُّرِ والتصديق ما احتاج للتأمُّل)). قال المصنِّف: ((*والنظريّ ما احتاج للتأمُّل *وعكسه هو الضروريُّ الجليُّ)).
ذكرنا أنَّ العلم ينقسم إلى تصوُّرٍ وتصديق، وأيضا ذكرنا أنَّ الفكر هو ترتيب أمور معلومة للتأدِّي إلى أمر مجهول. فهذا التصوُّر يمكن أن يكون حاصلا للإنسان من غير ترتيب أمورٍ أى: من غير فكر.
مثلا: أنا لمست هذا الشيء وهذا الشيء كان ساخنا، فعندما لمسته أحسست بالحرارة وحصل الإدراك بها. فهل هذا الإحساس وهذا الإدراك توقَّف على فكر؟ لا، بِمُجرَّد اللمس حصل الإدرك وحصل تصوُّرُ الحرارة.
كذلك تصوُّرُ البرودة، أيضا العطش، والجُوع، هذه كلُّها أمور يشعر بها الإنسان ويتصوَّرُها ويقولُ: أنا جائع، هل رتَّب أمورا ليتصوَّل إلى أنَّه جائع أم حصل له هذا الشيء من غير ترتيب أمور؟ حصل من غير ترتيب أمور. فهذا قسم من أقسام التصوُّر وهو ما يحصل للإنسان بغير ترتيب أمور أى: بغير فكر وبغير استدلال ويُسمَّى ضروريًّا.
ورُبَّما يحصل هذا التصوُّر بعد ترتيب أمور، كان الشخص جاهلا لهذا الشيء وأراد أن يعلمه لكنَّ علمه ليس سهلا؛ كلمس الجسم الساخن أو كذا بل لابدَّ من ترتيب أمور، فإذا رتَّب هذه الأمور وصل إلى هذا التصوُّر المجهول.
وترتيب أمور ذكرنا فيما مضى أنَّه يُسمَّى فكرا ونظرا، فهذا القسم من التصوُّرِ توقَّف على الترتيب الذي هو نظر، ونُسِب إليه وسُمِّي بنظريّ؛ لأنَّ النظري منسوب إلى النظر؛ لأنّه لا يحصل إلَّا بعد هذا النظر. بخلاف الضروريّ، أنا إذا أردت أن أعلم هل هذا الجسم بارد أو لا، ما الذي يحصل؟ لا عليَّ إلَّا ألمس هذا الجسم فقط، لكن لا أرتِّب أمورا، بخلاف هذا القسم فلابدَّ من ترتيب أمور.
مثلا: الضروري قلنا كتصوُّر الحرارة والبرودة والعطش والجوع. أمّا النظريُّ كالإنسان، مالإنسان؟، الإنسان أمر واحد ليس فيه نسبة، فرُبَّما يكون مجهولا لبعض الأشخاص، كيف يعلم هذا المجهول؟ لابدَّ من ترتيب أمور معلومة بأن يضع حيوان بجوار الناطق فتحصل له ماهية الإنسان وهو الحيوان الناطق.
فقد رتَّبَ الحيوان مع الناطق ليتصوَّرَ إنسان، فهذا يُسمَّى بالنظر، وما احتاج إليه أى: النظر يُسمَّى نظريّ. كذلك إنسان لا يعلم معنى الكلمة، وهي أمر واحد وهو تصوُّر لكنَّه مجهول، كيف يعلمه؟ بأن يُرتِّب أمورا، بأن يضع القول بجوار المفرد فتحصل ماهية الكلمة في ذهنه بعد أن كان مجهولا وحصلت بنظر.
فلذلك اختلف تصوُّرُ الكلمة والإنسان عن تصوُّر الحرارة والبرودة والعطش والجوع في أنَّ هذا الضروريَّ يحصل بغير ترتيب أمور، والإنسان والكلمة لابدَّ من ترتيب أمور لحصولهما. فلذلك انقسم التصور إلى ضروريّ ونظريّ.
ضروريّ منسوب إلى الضرورة؛ لأنَّ الإنسان إذا لمس هذا الجرم ووجده باردا، هل يمكن دفعُه؟، هل يمكن أن يدفع الإنسان؟، أن ألمس هذا الشيء وهو بارد وأن أدفع هذا الإحساس؟، أنا مضطرٌّ، إذا لمست أحسست، وأنا مضطر لإدراك هذا، فلذلك نُسِب إلى الضرورة.
كذلك إذا حصل العطش أو الجوع فالإنسان لا يملك دفعه. بخلاف النظري، ما الإنسان؟، يقول شخص أنا لا أعرف ماهية الإنسان، وكلَّما أردنا أن نعلِّمه يقول: أنا لا أريد أن أتعلَّم، هذا يمكن أن يمتنع ترتيب أمور مع إمتناع هذه الأمور، فلذلك لم يكن مضطرًّا.
أمَّا التصديق فينقسم أيضا إلى ضروريٍّ ونظريٍّ؛ كما انقسم التصوُّر إلى ضروريٍّ وإلى نظريٍّ انقسم التصديق إلى ضروريّ ونظريّ. فالتصديق الضروري هو الذي يحصل للإنسان من غير ترتيب أمور ويكون مضطرًّا.
مثلا: الإنسان يُدرِك أنَّه موجود، هل يملك الكبير والصغير دفع ذلك؟ لا يمكن، بل هو مُضطَرٌّ للعلم بأنَّه موجود. فكل إنسان يُدرِك إدراكا اضطراريًّا أنَّه متحقِّقٌ وثابتٌ في الخارج، هل يمكن دفع هذا الإدراك؟ لا يمكن، هل يجهله أحد؟ لا يمكن.
فلذلك نقول: أنا موجود –ولابدَّ إلى الإتيان بها في صورة قضية ومركَّب؛ لأنَّنا نتكلَّم عن التصديق، بخلاف تصوُّر الوجود فإنَّه أمر واحد-، هذه القضيّة هل يجهلها إنسان؟ لا يمكن أن يجهلها إنسان، هل يملك دفعها؟ لا يمكن، لذلك كان تصديقا ضروريًّا منسوبا لإضطرار وضرورة.
أيضا: النار حارَّة، هذا تصديق؛ لأنَّ إدراك فيه قد تعلَّق بنسبة أو بوقوع نسبة وهي وقوع نسبة الحرارة للنار. إذا لمس إنسان جرم نار يعلم أنَّه حارٌّ، هل يملك دفع ذلك؟ لا يمكن.
فإذا نظرت إلى إحساسه بالحرارة كان تصوُّرا، وإذا نظرت إلى حكمه بأنَّ النار حارَّة كان تصديقا. فإذا جزم وأدرك أنَّ النار حارَّةٌ، هذا تصديق. لكن عندما يضع يده في النار فيشعر بالحرارة، هذا الشعور بالحرارة تصوُّرٌ، لكن حكمه بأنَّ النار حارَّةٌ تصديق.
أيضا: الكلُّ أعظم من الجزء، من يجهل أنَّ الكلَّ أعظم من الجزء؟ لا أحد جهل ذلك، بل كلُّ إنسان مضطرٌّ لإدراك هذه القضيّة؛ لذلك كانت من التصديقات في الضروريّ. الكلُّ: ما تركَّب من جزئين فأكثر، ولاشكَّ أنَّ ما تركَّب من جزئين أعظم من جزءه الواحد.
§          (تنبيه) رُبَّما يُقال إنسان سأل هذه القضيّة الكل أعظم من الجزء، وأنا منذ قليل كنت أقول هي لا يجهلها أحد، كيف سأل عنها؟.
§          هذا ليس ناقصة فيه، الأمر ليس راجعا له. هو كان يجهل مفردا من مفردات المركَّب، هذا لا مشكلة في أنَّ التصديق الضروري يجهل إنسان أجزاؤُه، وبناءً على ذلك يجهل نسبة ولا يجزم بها. إذن ما هو التصديق الضروري؟ هو ما إذا علم إنسان أجزاؤُه ومفرداته جزم بنسبته، لا ما يعلمه كل إنسان؛ لذلك مع كونه لم يكن فاهما لهذه الجملة كان هذا –الكلي أعظم من الجزء- ضروريًّا بالنسبة له. مع أنَّه يقول: أنا لم أفهم هذه القضيّة، هذا لا يُخرجها عن كونها ضروريًّا؛ لأنَّه ما كان ناقضا ولا معترِضًا على نسبة أعظمية الجزء إلى الكل.
§          كذلك رُبَّما يقول إنسان: أنا لا أعرف وجود، ما معنى وجود؟. هل هذا يخرج القضية التي هي أنا موجود عن كونها ضروريًّا؟ لا، هي ضروريًّا في حقِّه وفي حقِّ غيره مع أنَّه يقول: أنا لم أعلم ما هو الموجود. كيف تقول مع جهله هو يدرِكها إدراكا ضروريًّا؟.
§          نقول: نعم؛ لأنَّ الضروريّ ليس ما يعلمه كلُّ إنسان بل ما إذا علم الإنسان الموضوع والمحمول جزم بنسبته قطعا من غير نظر.
***
v        س: هل لابدَّ قبل أن نجزم بهذه القضية من تصوُّرها أوَّلا؟
v        ج: لابدَّ من تصوُّرِ مفرداتها، لذلك قلنا فيما مضى: الحكماء يقولون التصديق هو الأمر الرابع والأمور الثلاثة شروط؛ لذلك لو لم تحصل هذه الشروط لم يحصل التصديق مع أنَّه ضروريٌّ.
v        س: قضيَّة: الله موجود، هل لابدَّ من تصوُّرها؟
v        ج: لابدَّ لكلِّ تصديقٍ من تصوُّراتٍ ثلاثة سواءٌ كانت هذه القضيَّة متعلِّقة بالله تعالى أو بالحوادث: الله موجود، الله خالق، الله واحد، لابدَّ من أن يكون الشخص الذي نأخذ منه هذا الإعتقاد أن يكون عالما بالله، لا يجب أن يكون بالكنه بل يستحيل أن يكون بالكنه، بل يعلمه بآثاره. ولابدَّ أن يكون عالما بالوجود، أو بالوحدانية، أو بالخالقية، حتَّى يُثبِت الخالق لله سبحانه وتعالى. ثُمَّ بعد ذلك يُثبِت أو لا يُثبت؛ لاشكَّ أنَّ الكافر الذي يجحد وجود الله سبحانه وتعالى إذا كلَّمناه عن الذات العليَّة يتصوَّرها بوجهٍ ما، وإذا كلَّمنا عن الوجود يتصوَّره ومع ذلك يجحد النسبة.
v        س: قضية: أنا موجود، طعن فيها بعض الناس؛ كسوفسطائية يطعنون في وجود أنفسهم، فهل هذا يطعن في كونها ضروريًّا؟
ج: لا يطعن، -على كل حال نجيبك إجابا سريعا- قالوا: إنَّ الضروريَّ يُشتَرَط فيه أن لا يكون معه مُعارِض ومانع منع من الإدراك؛ كمانع الكفر عند الكافر من إيمانهم من تصديقهم بنبوّة سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، أو من تصديقهم بوجود الله سبحانه وتعالى، أو من تصديق سوفسطائي في وجوده؛ لأنَّ كثرةَ التشكيك الذي وقع عليه منعه من إدراك هذا التصديق.
***
التصديق النظري؛ كالله موجود مثلا. أمَّا كونه فلأنَّه تركَّب من موضوع هو لفظ الجلالة، ومحمول هو موجود، ونسبة بينهما، وجزمنا بوقوع هذه النسبة وهو أنَّ الله موجود، فهذا تصديق.
هل هو ضروريّ أو نظريّ؟ نظريٌّ؛ لأنَّه لا يُحكَم به من غير ترتيبِ أمورٍ بل لابدَّ من ترتيب أمورٍ. ولذلك نرى المتكلِّمين يُؤلِّفون ويُركِّبون الإستدلالات على وجود الله سبحانه وتعالى؛ وألَّف الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى مجلَّدًا كبيرا في إثبات وجود الله، فلو كان ضروريًّا لَمَا تكلَّم العلماء عن إثباته فلذلك كانت نظريًّا.
مثلا: نقول: الله سبحانه وتعالى خالق وكل خالق موجود، أنتجت الله موجود. ثُمَّ نستدلّ على الله خالق وكل خالق موجود. فهذا تصديقٌ نظريٌّ؛ لأنَّه منسوب إلى نظر.
أيضا: العالم حادث، هذا تصديق. هل هو ضروريّ أو نظري؟ نظريٌّ؛ لأنَّه يفتقر إلى ترتيب أمور بأن نقول: العالم متغيِّر وكل متغيِّر حادث، أنتجت العالم حادث.
فانقسم كلٌّ من التصوُّرِ والتصديق إلى الضروري والنظري. لذلك قال المصنِّف ((*والنظريّ))، أى: من التصوُّر والتصديق ((*ما))، أى: إدراك ليشمل التصور أو التصديق، ما واقعة على إدراك.
((*والنظري ما))، أى: إدراك ((*احتاج)) هذا الإدراك في حصوله ((*للتَّأمُّل)). والتأمُّل هنا بمعنى: النظر والفكر والإستدلال، هي ألفاظ متعدِّدة بمعنى واحد. فتعريف النظري هو الإدراك المحتاج إلى تأمُّلٍ وفكرٍ ونظرٍ.
ثُمَّ قال: ((*وعكسه هو الضروريّ))، والمراد بالعكس هنا مطلق المخالف أى: ويخالفه الضروريّ ((*الجليّ))، أى: الواضح الظاهر الذي لا يخفى على أحد.
قال الشارح: ((ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ النظريَّ من كلٍّ من التصوُّرِ والتصديقِ: ما احتاج للتَّأمُّل)). الشارح قال: بيَّن أنَّ النظريَّ من كلٍّ من التصوُّر والتصديق، فأنت تستبدل هذه العبارة بإدراك؛ لأنَّ إدراك يشمل التصوُّر والتصديق أى: ثُمَّ بَيَّن أنَّ النظريَّ من الإدراك ما احتاج للتَّأمُّل. ولذلك قلنا: ((*ما)) واقعة على إدراك.
((والضروري عكسه وهو ما لا يحتاج إلى ذلك))، أى: إلى تأمُّلٍ وفكر ونظر.
قال: ((فالأقسام أربعة)): تصور ضروري ونظري، تصديق ضروري ونظري ((كما تقدّم))، أى: في قوله: ((ثُمَّ إنَّه ينقسمُ إلى تصوُّرٍ وإلى تصديقٍ، وكلٌّ منهما إلى ضروريٍّ وإلى نظريٍّ، فالأقسام أربعة)).
ثُمَّ أتى بأمثلة يكفي فهم ما ذكرناه؛ لأنَّ أمثلة الشيخ فيها شيء من الصعوبة. كان عليه أن يأتي بأمثلة سهلة؛ لأنَّ هذا الكتاب للمبتدئين. قال: ((مثال التصوُّر الضروريّ: إدراك معنى لفظ الواحد نصف الإثنين)).

لاتمام الموضوع ولمزيد الفائدة اضغط موقع الشيخ في الفيس بوك أو اليوتوب....





[1] الدرس الثالث من شرح الشيخ حسام بن رمضان بن حافظ على شرح الشيخ الدمنهوري على السلّم المنورق في علم المنطق.

Comments

Popular posts from this blog

فصل في مباحث الألفاظ

https://www.facebook.com/dar.alghazali بسم الله الرحمن الرحيم [1] قال المصنِّف والشارح رحمهما الله ونفعنا بعلومهما وعلوم شيخنا في الدارين، آمين: فصل في مباحث الألفاظ ثم قال: مستعمل الألفاظ حيث يوجد * إمَّـــــا مركَّب وإمَّـــــا مفـرد فأوَّلٌ مـــا دلَّ جـــزؤه علـــى * جـزء معــناه بعــكس ما تـلا وهو على قسمين أعني المفردا * كلِّـيٌّ أو جزئـيٌّ حيث وجــدا فمــفـهــم اشــتـراك الكــلِّـيُّ * كـأســد وعكــسـه الجــزئـيُّ أقول: اللفظ إمَّا أن يكون مهملا؛ كديز، أو مستعملا؛ كزيد، ولا عبرة بالمهمل ولذلك أهمله المصنِّف. ثُمَّ المستعمل إمَّا أن يكون مفردًا، وإمَّا أن يكون مركَّبا. فالأوَّل: ما لا يدل جزؤه على جزء معناه؛ كزيد. والثاني ما دل جزؤه على جزء معناه؛ كزيد قائم. والكلام على المركَّب بقسميه –أعني ما هو في قوَّة المفرد، وما كان محضا- يأتي في المعرِّفات، والقضايا، والأقيسة. والمقصود هنا المفرد، وهو قسمان: 1)       جزئي: إن منع تصوُّر معناه من وقوع الشركة فيه؛ ك...

فصل في أنواع الدلالة الوضعية

https://www.facebook.com/dar.alghazali بسم الله الرحمن الرحيم [1] قال المصنف والشارح رحمهما الله تعالى ونفعنا بعلومهما وعلوم شيخنا في الدارين، آمين : ثُمَّ هذه الدلالة ثلاثة أقسام: مطابقية، وتضمنية، والتزامية. فالأولى: دلالة اللفظ على تمام ما وضع له؛ كدلالة الإنسان على مجموع الحيوان الناطق. والثانية: دلالة اللفظ على جزء المعنى في ضمنه؛ كدلالته على الحيوان أو الناطق في ضمن الحيوان الناطق. والثالثة دلالة اللفظ على أمر خارج عن المعنى لازم له؛ كدلالته على قبول العلم، وصنعة الكتابة على ما فيه، وهذا معنى قوله: (( دلالة اللفظ ... )) البيتين. وسُمِّيت الأولى دلالة المطابقة لمطابقة الفهم للوضع اللغويّ؛ لأنَّ الواضع وضع اللفظ ليدلَّ على المعنى بتمامه، وقد فهمناه منه بتمامه. والثانية دلالة تضمّن؛ لأنَّ الجزء في ضمن الكل. والثالثة دلالة الإلتزام؛ لأنَّ المفهوم خارج عن المعنى لازم له. وقولُهُ: (( إن بعقل التزم )) . أشار به إلى أنَّ اللازم لابدَّ أن يكون لازمًا في الذهن. سواءٌ لازم مع ذلك في الخارج؛ كلزوم الزوجية للأربعة، أم لا؛ كلزوم البصر للعمى. وأمَّا إذا كان لازمًا في ال...

فصل في أنواع العلم الحادث

source: https://www.facebook.com/Dar.alghazali بسم الله الرحمن الرحيم [1] قال المصنِّف والشارح رحمهما الله تعالى ونفعنا بعلومهما وعلوم شيخنا في الدارين آمين: إدراك مـفــــرد تـــصــــــوّر عـــلـمْ * ودرك نـســـبـة بـتـــصـديـق وســـمْ وقـــدّم الأوّل عـــنـــــد الـــوضـــعِ * لأنّـــه مــــقــــــدَّم بـــالـــطبــــــعِ والنـــظري مـــا احتـــاج للتـــأمّــــلِ * وعـكــسـه هـو الـضــروري الـجــلـِي ومـــا بـــه إلـــى تــصــــوّر وصــــلْ * يـدعــى بـقــول شـارح فـلــتـبــتـهـلْ ومـــا لـتــصـــديــق بــه تــوصـــــلا * بـحــجّــة يـعــرف عـنــد الـعــقــــلا أقول : لفظ (( *أنواع )) يخرج العلم القديم، فإنّه لا تنوّع فيه، فإتيانه بالحادث بعد ذلك تأكيدٌ وإيضاح للمبتدئ. و (( *العلم )) : معرفة المعلوم، ثمّ إنّه ينقسمُ إلى تصوّر، وإلى تصديق، وكل منهما إلى ضروري، وإلى نظريّ، فالأقسام أربعة. فإن كان إدراك معنى مفرد، فهو تصور: كإدراك معنى زيد. وإن كان إدراك وقوع نسبة، فهو تصديق:...