[1]قال المصنِّف والشارح رحمهما الله تعالى ونفعنا بعلومهما
وعلوم شيخنا في الدارين آمين:
ثمّ قال:
أنواع الدلالة
الوضعية
دلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى مَا وَافَقَهْ
|
*
|
يَدْعُـوْنَـهَـا دلَالَـةَ المُطَـابَقَـهْ
|
وجُـزْئِـهِ تَضَـمُّنـًا وَمَـا لَزِمْ
|
*
|
فَهُوَ الـتِزَامٌ إِنْ بِعَـقْل التُـزِمْ
|
أقول:
مراده بالدلالة الوضعية اللفظيّةُ، بدليل قوله في البيت ((*دلالة
اللفظ)). ومراده في البيت دلالة اللفظ الوضعيّةِ، بدليل قوله في
الترجمة ((*الوضعيّة)). فقد حذف من كل من
الترجمة والبيت ما أثبت نظيره في الآخر، وهو نوع من الجناس يسمّى الإحتباك.
والدلالة فهم أمر من
أمر؛ كفهمنا الجرم المعهود من لفظ السماء، فلفظ السماء يُسمَّى دالًّا والجرم
المعهود مدلولًا.
والدلالة بحسب الدال
ستَّة أقسام، لأنَّ الدال إمَّا أن يكون لفظا –كالمثال المتقدم-، أو غير لفظ
كالدخان الدال على النار. وكل منهما إمَّا أن يكون دالا بالوضع، أو بالطبع، أو
بالعقل.
-
مثال دلالة غير اللفظ الوضعيّة : دلالة الإشارة على معنى
نعم، أو لا، ودلالة النقوش على الألفاظ.
-
ومثال الطبعيّة : دلالة الحمرة على الخجل، والصفرة على
الوجل.
-
ومثال العقلية : دلالة العالم على موجده وهو الباري جلّ
وعلا، والدخان على النار.
-
ومثال دلالة اللفظ الوضعية : دلالة الأسد على الحيوان
المفترس، والإنسان على الحيوان الناطق.
-
ومثال الطبعية : دلالة الأنين على المرض، وأح على ألم
بالصدر.
-
ومثال العقلية : دلالة كلام المتكلّم من وراء جدار على حياته،
والصراخ على مصيبة نزلت بالصارخ.
والمختار من هذه
الأقسام الثلاثة : الدلالة اللفظية الوضعية. فقولنا اللفظية، مخرج لغير اللفظية
بأقسامها الثلاثة. وقولنا الوضعيّة، مخرج للفظية الطبعية والعقلية.
***
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ
العالمين، وأفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم على سيِّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، وعلى
آله وصحابته الطيبين الطاهرين.
أمَّا بعد:
ذكرنا فيما مضى أنَّ أبواب المنطق هي: الكليَّات الخمس، والقول الشارح –والأول يُسمَّى
بمبادئ التصوُّرات والثاني يُسمَّى بمقاصد التصوُّرات-، والقضايا وأحكامها،
والقياس –والقضايا وأحكامها هي مبادئ التصديقات والقياس هو مقاصد التصديقات-. فهذه
هي أبواب المنطق الأربعة.
ثُمَّ ذكرنا
أنَّ الكليَّات الخمس ما هي إلَّا معانٍ، ولا يُمكِن فهمُ هذا المعنى أو تفهيمُهُ
إلَّا بدالٍّ عليه، والدال في المشهور وفي الميسور للبشر هو اللفظ؛ لأنَّه أيسرُ
ما يُمكِن أن يُدلِّلَ به إنسان على ما يريده.
ثُمَّ ذكرنا
أنَّ اللفظ وأنَّ مباحثَ الألفاظ التي ذكرها المناطقة في كتب المنطق ليست من
المنطق؛ لأنَّها من المباحثِ المتعلِّقةِ باللَّفظِ، والمنطقيُّ لا يشتغلُ
بالألفاظ، وإنَّما هي من المباحث اللغوي.
وهذا اللفظ لا
يمكن أن يُفهِم معنًى إلَّا بارتباط بينه وبين المعنى؛ لأنَّه لا يمكن أن يكون هذا
اللفظ في انفصالٍ عن المعاني ومع ذلك يدلُّ عليها، لابدَّ من ارتباطٍ بينه وبين المعنى
الذي يفهمه. هذا الإرتباط هو المُسمَّى بالدلالة.
فهناك دالٌّ
هو اللفظ، ومدلول هو المعنى، وهناك دلالةٌ وهي الرابطة بين اللفظ والمعنى. وكلٌّ
من مباحث الدلالات ومباحث الألفاظ خارج عن فنِّ المنطق.
قال الشارح
رحمه الله: ((و*الدلَالَةُ*: فهمُ أمرٍ من أمرٍ؛ كفهمنا الجرم المعهود
من لفظ السماء)).
((*الدلَالَة)) مصدر دلَّ
يدلُّ، ((فهمُ أمرٍ من أمرٍ)). إذن لابدَّ من أمرين، وفهم أمرٍ منهما من الأمرِ الآخر هو الإرتباط الذي
ذكرناه. فلذلك عَرَّف الدلالة بهذا الإرتباط.
فقوله: ((فهم))، أى: انفهام. أنا إذا قلت: زيد، ما الذي يأتي في ذهن
السامع؟ يستحضر في ذهنه الشخص الذي وُضِع له لفظ زيد. إذن عندما سمِع (زيد) حضر في
ذهنه معنى، فهناك ارتباط بين اللفظ الذي سمعه وبين المعنى الذي حضر في ذهنه. ما هو
هذا الإرتباط؟ هو الدلالة، ولولا هذه الدلالة لَمَا انتقل ذهنُهُ –ذهن السامع- من
اللفظ للمعنى الذي هو الشخص المُسمَّى بزيد.
فلذلك قال: ((فهم))، أى: انفهام؛ لأنَّك عندما تسمع اللفظ يأتي في ذهنك هذا
المعنى فهذا انفهام، إلَّا أنَّ هذا الإنفهام حاصل من أمر هو اللفظ والذي حصل هو
المعنى. فلذلك قوله: ((فهم أمر من أمر))، أى: فهم معنى من لفظ، هذا إذا خصصنا بالدلالة اللفظية –كما سيأتي-.
الأوَّلُ يُسمَّى
مدلول؛ لأنَّه قد دُلَّ عليه بغيره. والثاني يُسمَّى دالٌّ؛ لأنَّه دَلَّ على هذا
المعنى. هذا اسم فاعل وهذا اسم مفعول، دالّ لأنَّه دلَّ على هذا المعنى، وهذا
مدلول لأنَّه دُلَّ عليه والذي دلَّ عليه هو اللفظ.
إذن لابدَّ
لتحقُّق الدلالة من لفظ، ومن معنى. وهذه الدلالة ارتباطٌ؛ كالكلام على النسبة التي
ذكرناها في التصديق، قلنا: هناك موضوع، ومحمول، ونسبة، وهذه النسبة لا يُمكن
تحقُّقُها إلّا بتحقُّقِ الأمرين، لا يمكن أن تتحق النسبة بين الشيئين إلَّا بتحقُّقِ
الشيئين.
كذلك هنا،
الدلالة هي ارتباطٌ بين المدلول والدال؛ كما أنَّ النسبة ارتباطٌ بين الموضوع
والمحمول، فلا تتحقَّقُ إلَّا بتحقُّقِهما، كذلك الدلالة لا تتحقَّقُ إلَّا
بتحقُّقِ دالٍّ ومدلول. هذا معنى قوله: ((والدلالةُ:
فهمُ أمرٍ)) هو المعنى ((من أمرٍ)) هو اللفظ.
قال: ((كفهمنا الجرمَ المعهود من لفظ السماء)).
قوله: ((كفهمنا الجرم المعهود))، هذا معنى أو
لفظ؟ معنى، لكنَّه لفظ: جيم وراء وميم ومعهود، هذا لفظ كيف يكون معنى؟.
لا يمكن أن
يُعبِّر الشيخ عمَّا في داخله إلَّا بلفظ، لكنَّه يريد بقوله: ((كفهمنا الجرم المعهود))، كفهمنا معنى
الجرم المعهود، لكن لَمَّا صعُب واستحال أن يُعلِمَنَا بهذا المعنى إلَّا بلفظٍ
ذكر لفظًا، مع أنَّ الجرم المعهود لفظ والسماء لفظ. لكن نقول: كفهمنا معنى الجرم
المعهود.
قال: ((من لفظ السماء))، السماء عندما يسمعها إنسان ينتقِلُ ذهنُهُ من هذا
اللفظ إلى الجرم المعهود الكبير المعروف أو ما علاك؛ كلُّ ما علاك فهو سماء، وهو
يقصد بالجرم المعهود الجرم المشهور الذي يحيط بالأرض، فعندما تسمع السماء ينتقِلُ
ذهنك. لماذا لم ينتقِل الذهن إلى شخص زيد؟ لأنَّه لا ارتباطَ بين السماء وبين هذا
الشخص، إذن لا دلالة، ولَمَّا لم تكن الدلالة لم يحصل الإنتقال؛ لأنّ الدلالة هي
هذا الإنتقال من اللفظ إلى المعنى. وانتقل ذهني إلى الشخص من لفظ زيد، لماذا؟ لأنَّ
بينهما ارتباطٌ هو يُسمَّى بالدلالة، ويمكن أن تقول: لعدم الوضع، ويمكن أن تقول:
لعدم وجود الإرتباط –كما سيأتي-.
((كفهمنا الجرم المعهود)) الكائن الذي يعرفه الصغير والكبير ((من لفظ السماء)). فقوله: ((من لفظ السماء)) يُقابِله في ((الجرم المعهود)) معنى
الجرم المعهود، إلَّا أنَّه حذفه لظهوره في الكلام.
قال: ((فلفظ السماء يُسمَّى دالًّا)) اسم فاعل؛
لأنَّه دَلَّ على غيره، ((والجرم
المعهود))، أى: ومعنى الجرم المعهود ((مدلولا))؛ لأنَّه لا يُمكِن أن يُسمَّى لفظ الجرم المعهود
مدلولا. هذا معنى الدلالة.
§
اللفظ جنس يُطلَق على الواحد والأكثر، يُطلَق على القليل
والكثير. يعني: السماء لفظ واحد، وزيد قائم لفظان أو كلمتان ولهذا اللفظ المركَّب
معنى، ما معناه؟، لا يمكن أن يكون معناه الشخص فقط أو ذات لها قيام فقط، بل لابدَّ
أن تقول: معنى هذا المركَّب هو حكم على زيد باتِّصافِه بالقيام أو بالقيام، هذا هو
معنى زيد قائم. إلَّا أنَّك إذا أردت التدقيق تقول: حكم على زيد بالقيام مع الثبوت
أى: عدم التجدُّد ومع الإستمرار، هذا ما تفيده الجملة الإسمية.
§
بخلافِ قام زيد، أيضا مركَّب ويدلُّ على نفس المعنى الذي
دَلَّ عليه زيد قائم مع اختلاف هو أنَّه يدلُّ على حدوث والتجدُّد، أنَّك إذا سمعت:
قام زيد، هذا يُشعِر بأنَّه لم يكن قائمًا، هذا فيه التجدُّد وحدوث –أنَّ القيام
قد حدثت-. زيد قائم تشعر بأنَّه اتَّصف بالقيام مُدَّة طويلة ليس في هذا التركيب
إشعار بأنَّه كان جالسًا مثلا ثُمَّ قام، بخلاف قام زيد.
§
عندما تقول: اجتهد فلان، هذا يُشعِر بأنَّه كان بَيِّن.
بخلاف ما إذا قلت: فلان مجتهد؛ لأنَّ الإجتهاد صفة لازمة له. لكن –على كل حال- هذا
لفظٌ مركَّب وهذا لفظ مركَّب وكلٌّ منهما أفهم معنى مركَّبا.
***
v
س: ما معنى الجرم المعهود؟
v
ج: الجرم الأزرق الذي يراه الكبير والصغير، كلُّ الناس
يقولون عليه سماء، لكن كلمة سماء تُطلَق على كلِّ ما علاك.
v
كلمة جرم بمعنى جسم وجوهر، أو يقولون: الجرم وهو الجوهر
المركَّب، والجوهر المركَّب هو الجسم فهذا الكتاب جرم والقلم جرم. أمَّا كلمة
المعهود أى: المعروف المعلوم. فقوله: الجرم المعهود أى: الجسم المعروف المشهور بين
الناس. ما هو الجسم المعروف بين الناس الذي تنصرف إليه الأذهان عند إطلاق السماء؟
هو هذا الجرم الكبير الذي يُحِيط بالأرض، فالجرم هو الجسم والمعهود أى: المعروف.
***
ثُمَّ شرع
الشارح رحمه الله في تقسيم الدلالة، قسَّمها مرَّةً باعتبار الدال ومرَّة باعتبار
سبب الدلالة.
إذن قلنا:
لابدَّ في الدلالة مِنْ تَوفُّرِ ومِنْ تحقُّق دالٍّ ومدلول. فإذا انقسم الدال،
انقسمت الدلالة؛ لأنَّ الدلالة تابعة للدَّال.
قسَّم الدالّ
إلى دال لفظي وإلى دال غير لفظي. دال لفظي؛ كلفظ السماء الذي ذكر،
فإنَّ السماء تُفهِم الجرم المعهود، وهي لفظ. لماذا كانت لفظ؟ لأنَّها صوت مشتمل
على بعض الحروف أو معتمِد على مَخرَج، لذلك كان لفظا. فإذا قيل السماء، نفهَم
الجرم المعهود.
بخلاف الإشارة،
فالإشارة نَفهَم منها أمرا، هذه الإشارة –الإشارة على معنى نعم- نعم، هذه الإشارة –الإشارة
على معنى لا- لا، هذه الإشارة –الإشارة على معنى اذهب- اذهب.
هذه إشارة، هل
هذا يُسمَّى لفظا؟ ليس لفظا؛ لأنَّه لا يندرج في الصوت؛ لأنَّ الصوت هو الهواء المُتمَوِّج
الذي يقرع الآذان. ولاشكَّ أنَّ هذه الإشارة –الإشارة على معنى اذهب- ليست صوتا،
فلذلك لم تكن داخلة في الدال اللفظي وإنَّما كانت في الدال غير اللفظي.
إذن لماذا كانت
غيرَ لفظ؟ لأنَّها ليست بصوت. ولماذا كانت دالَّة؟، لابدَّ من تحقيق أمرين: أنَّها
دالٌّ، وأنَّها غير لفظ. أمَّا كونُها غيرَ لفظٍ فقد عرفناه، وأمَّا كونها دالَّةً
فـلأنَّه يُنتقَل منها إلى معنى؛ إذا صنعت هكذا –الإشارة على معنى اذهب- تَفهَم
اذهب، تَفهَم معنى من المعاني، وإذا صنعت هكذا –الإشارة على معنى نعم- تفهم نعم،
تفهم معنى نعم؛ لأنَّ الفهم لا يتعلَّق بلفظ بل يتعلَّق بالمعنى. إذن كانت دالَّةً؛
لأنَّه يُنتقَل منها إلى معنى، وإذا انتُقِل منها إلى معنى فقد حصل فهم أمر من أمر،
فإذا حصل فهم أمر من أمر حصلت الدلالة.
بعد ذلك قسَّم
الشيخُ الدلالة باعتبار سببها إلى أقسام ثلاثة. ما معنى سبب الدلالة؟ لاشكَّ أنَّ
الدلالة وهي ارتباطٌ بين أمرين لا يمكن أن تكون بين أمرين إلَّا بسببٍ ربَطَ الدال
بالمدلول.
هل لفظ زيد،
هذا اللفظ في حقيقته وفي نفسه –وفي حروفه: الزاي، والياء، والدال- هذه تقتضي
الدلالة على معنى الشخص المعروف؟ لا. هذه الإشارة –إشارة على معنى اذهب- هل في
ذاتها تقتضي معنى اذهب؟ لا. إذن لابدَّ من أمر جعل زيد يدلُّ على الشخص، لابدَّ من
أمرٍ ربط بينهما، من أمر جعل هذه الدلالة.
§
رُبَّما يقول إنسان: نعم لفظ زيد، ولفظ قلم، هذا في ذاته
يقتضى الدلالة على الشخص وعلى هذه الآلة. رُبَّما يدَّعي ذلك، أنَّ اللفظ في ذاته
وهو التأليف من الزاي والياء والدال، والقاف واللام والميم.
§
نقول له: لو كان كلامك صحيحا لَمَا أمكَن وضعُ اللفظ
كزيد مثلا لغير الشخص. لكن يُمكِن أن نضع لفظ زيد لكتاب أم لا؟، نُسمَّي به كتاب،
أو نُسمِّى به قلم. ما المانع أن يصطلح الناس على تسمية القلم بزيد؟، أنا أكتب
بزيد. هل هناك مانع في هذا؟، هل لفظ زيد يتعارض مع هذا المعنى؟ لا تعارُض، فلو
كانت الدلالة من نفس اللفظ لَمَا أمكن وضعُه لشيء آخر. لكنَّه يمكن فلذلك لم تكن
مثل هذه، بل لابدَّ من أمر خارجٍ يربط بين هذا اللفظ أو بين هذا الدال وبين المعنى.
هذا هو الذي سمّيناه بسبب الدلالة أى: الأمر الذي رَبَط بين الدال والمدلول.
§
بخلاف ما إذا كانت دلالة اللفظ على المعنى من ذات الدال –من
ذات اللفظ- حينئذٍ لا نقول سبب؛ لأنَّ ذات الشيء هي التي دلَّت، لا سبب سوى ذلك.
لكن لَمَّا بيَّنَّا أنَّ ذات الشيء أو ذات اللفظ أو ذات الدال لا تقتضى المدلول،
قلنا: إذن هناك أمر خارج هو ما سَمَّيناه بسبب الدلالة.
إذن ما هي
أسباب الدلالة أى: الأمور التي تربط بين الدال والمدلول؟ الوضع، والطبع،
والعقل.
الوضع: هو الجعل، وضعت هذا القلم فوق الكتاب أى: جعلتُهُ فوقه.
وتعريفه: جعل شيء بإزاء شيء آخر بحيث يُفهَم الثاني من الأوّل.
أنا جعلت هذا
القلم فوق هذا الكتاب، هذا جعل، وهذا وضع، لكن ليس هذا الوضع بحيث يُفهَم الثاني
من الأوَّل، فلذلك قيَّدنا (بحيث يُفهَم الثاني من الأوّل)؛ كما في الإشارة –
إشارة على معنى اذهب- فهذه الإشارة دلَّت على معنى هو اذهب. فهناك إشارة وهناك
معنى هو اذهب، وجُعِلت الإشارة بإزاء هذا المعنى الذي هو اذهب، ليس مطلق الجعل، بل
الجعل يُفهَم في الثاني الذي هو اذهب من الأوّل الذي هو الإشارة.
السماء جُعل
أى: وُضِع للجرم المعهود، فهذا وضع؛ لأنَّه جعل شيء هو لفظ السماء بإزاء شيء هو
معنى الذي هو الجرم المعهود بحيث يُفهَم الثاني الذي هو الجرم المعهود أو معنى
الجرم المعهود من الأوّل الذي هو السماء، ولولا هذا الجعل لَمَا دلَّ السماء على
الجرم المعهود، ولَمَا دلَّت الإشارة على معنى اذهب.
هناك أسهم
مثلا تُوضَع في الطرق ويُكتَب عليها مستشفى كذا، والسهم يتوجَّه إلى جهة. عندما
أقرأ أفهم أنَّ معنى هذا اللفظ موجود في هذه الجهة. هذا الشيء كيف دلَّ على هذا
المعنى –على هذا المستشفى-؟ ما دلَّ إلَّا بوضع الواضع، لولا هذا الوضع لَمَا دلَّت.
لكن هذا ليس كوضع القلم على الكتاب؛ لأنَّ هذا جعل فيه هذه الحيثيَّة هي أنَّه
يُفهَم الثاني الذي هو المستشفى من الأوَّل الذي هو السهم. هذا من قبيل الوضع.
إذن السماء
دلَّت على معنى وهذه الدلالة بالوضع، والسماء لفظ. والإشارة دلَّت على معنى بسبب
الوضع، والإشارة ليست بلفظ. والمشهور عندهم هو الدلالة الوضعية اللفظيَّة، فلذلك عَرَّفوا
الوضع بتعريف يخصُّ وضع الألفاظ؛ لأنَّ الوضع قلنا: يمكن أن يكون لألفاظ أو لغير
ألفاظ، لكن –كما سنُبيِّن في الآخر- لَمَّا اختصروا على الدَّلالة اللفظيَّة
الوضعيَّة عرَّفوا الوضع بتعريف يخصُّ وضع الألفاظ.
فبدلا من أن
يقول: (جعل شيء) والشيء يشمل لفظ أو غير لفظ، قالوا: (جعل لفظ) خصُّوا الوضع
باللفظ للإهتمام به، (بإزاء معنى بحيث إذا أُطلِق الأوّل فُهِم الثاني للعِلم
بالوضع).
***
v
س: س: جعل شيء بإزاء شيء آخر بحيث يُفهَم الثاني من الأول؟
v
ج: هذا الوضع العام وهو معنى عرفي؛ لأنَّ الوضع في اللغة
يُقَال لغلام إذا ولدت امرة يُقَال: وضعته، وله معان أخرى في اللغة.
v
س: جعل لفظٍ بإزاء معنى بحيث إذا أطلق الأول فهم الثاني
للعلم بالوضع، هذا تعريف ثان للوضع؟
v
ج: قسم للوضع لأن الوضع إمَّا أن يكون وضعًا لألفاظ أو
وضعا لغير ألفاظ. هذا تعريف يخصُّ وضع الألفاظ. ولماذا ترك وضع غير ألفاظ؟ لعدم
الإحتياج إليه. هذا يُسمَّونه بتعريف الخاص والأول يُسمَّى بتعريف الخاصّ.
***
(جعل لفظٍ
بإزاء معنى)، أى: بمقابلة معنى؛ كجعل لفظ زيد بإزاء وفي مقابلة الشخص المعروف،
وكجعل لفظ السماء بإزاء وفي مقابلة الجرم المعهود.
(بحيث)، لابدَّ
من هذه الحيثيّة، (إذا أُطلِق الأوَّل) هو اللفظ أى: إذا سُمِع لفظ زيد؛ لأنَّ
اللفظ يُسمَع. (فُهِم الثاني للعِلم بالوضع) أو للعالِم بالوضع. لماذا قيَّدوا
بهذا القيد (للعلم بالوضع)؟.
لأنَّك رُبَّما
تأتي بلفظ ومع ذلك السامع لا ينتقل ذهنُهُ من هذا اللفظ إلى معناه. هناك ألفاظ
كثيرة لا يَعرِف الناس معانيَهُ، فإذا ذكرت منها لفظًا لا تنتقلُ أذهانُهُ من هذا
اللفظ إلى معناه. لماذا؟، هل هذا يطعن في الوضع؟، هل يُقال حينئذ هذا اللفظ ليس
موضوعا؟، لماذا لا ينتقل ذهن السامع من هذا اللفظ إلى المعنى؟.
لأنَّه لا
يعلم أنَّه وُضِع لهذا المعنى، فلو قلنا: الوضع هو جعل لفظ بإزاء معنى بحيث إذا
أُطلِق الأوّل فُهِم الثاني وسكتنا، نأتي للفظ الغضنفر مثلا ونقول لإنسان: هل رأيت
غضنفر، فهو لا يفهم كلمة غضنفر ويقول: ما معناه. حينئذٍ نقول: لو اختصرنا ولم نذكر
(للعِلم بالوضع)، لفظ الغضنفر ليس موضوعا؛ لأنَّ تعريف الوضع لايتحقَّق فيه؛ لأنَّ
السامع سمع هذا اللفظ ولم ينتقل ذهنُه منه إلى معنى.
بخلاف ما إذا
قلنا: (للعلم بالوضع). نقول: هذا الإنسان لم ينتقل ذهنه من اللفظ إلى
المعنى؛ لأنَّه جاهل بالوضع، لا يعرف أنَّ غضنفر وُضِع لأسد، وهذا لا ينفي عن
الغضنفر أنَّه موضوع. فلذلك قد قيَّدوا بهذا القيد: (للعلم بالوضع).
ويستحيل أن
يعلم إنسان أنَّ هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، ولا يفهم المعنى من هذا اللفظ.
فلذلك إذا علم السامع أنَّ لفظ غضنفر موضوع لمعنى هو أسد، ثُمَّ سَمِع، ينتقل ذهنه
من اللفظ إلى المعنى دون اختيار منه. فلذلك قالوا: للعلم أو للعالِم بالوضع.
لماذا قيَّدوا
بقيد (للعلم بالوضع)؟ لأنَّه لو لم يُقيَّد هذا الجعل بهذا القيد لخرج اللفظ
الموضوع الذي لم يفهمه السامع أو لم ينتقل السامع منه إلى معنى بسبب أنَّه لا يعرف
الوضع؛ كجميع اللغات التي لا يعرفها إنسان: الإنجلزية أو الفارسية، لا نعلم
معانيه، فإذا سمعتُ لفظًا من هذه الألفاظ لا أدرك ما معنى هذا اللفظ ولا أفهمه،
لأنَّه لغة غير لغتي. هل هذا ينفى عن هذه الألفاظ من لغةٍ أخرى أنَّها موضوعة؟ لا
ينفي، لو لم نقيد بهذا القيد لخرج عن كونها موضوعة. لماذا؟ لأنَّها لم تكن بحيث
إذا أُطلِقت فُهِم منها معنى. بخلاف ما إذا قلت: للعلم أو للعالِمِ بالوضع، نقول:
هذه ألفاظ موضوعة وقد تدلُّ على معنى وعدم الدلالة عند هذا الشخص لأنَّه لم يعرف
وضع هذه الألفاظ، لا لأنَّها ليست موضوعة، فعدم انتقاله من الأول إلى الثاني ليس
لأنَّ اللفظ مهمل وغير موضوع، بل لأنَّه لم يكن عالمًا بالوضع.
***
v
س: هل هناك شيء يدل لذاته؟
v
ج: بالنسبة للألفاظ، على مذهب جمهور المتكلّمين فلا،
أمَّا المعتزلة فنعم؛ هم قالوا بين الألفاظ والمعاني مناسبة تقتضي أن تدلَّ ذاتُ
اللفظِ على المعنى، هذا كلامهم وأهل السنة أبطلوا هذا الكلام فليس بين الألفاظ –وهذا
قد نصّ عليه أهل السنّة- وبين المعاني مناسبة تقتضي أن يدلَّ اللفظ على هذا
المعنى. وأمَّا غير الألفاظ فليس كذلك، لا تدل بذاتها.
***
لإتمام الموضوع ولمزيد الفائدة اضغط موقع الشيخ على اليوتوب أو الفيس بوك الآن
[1] الدرس الرابع من شرح الشيخ حسام بن رمضان بن حافظ على
شرح الشيخ الدمنهورى على السلّم المنورق في علم المنطق.
Comments
Post a Comment